فصل: كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ:

قَالَ: (الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِي لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُطْلَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
قَالَ: (فَمَا كَانَ مِنْهَا عَادِيًا لَا مَالِكَ لَهُ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ مِنْ أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ فِيهِ فَهُوَ مَوَاتٌ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَمَعْنَى الْعَادِي مَا قَدُمَ خَرَابُهُ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ مَعَ انْقِطَاعِ الِارْتِفَاقِ بِهَا لِيَكُونَ مَيْتَةً مُطْلَقًا.
فَأَمَّا الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَا تَكُونُ مَوَاتًا، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ يَكُونُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالِكٌ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَيَضْمَنُ الزَّارِعُ نُقْصَانَهَا، وَالْبُعْدُ عَنْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا قَالَ شَرَطَهُ أَبُو يُوسُفَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ.
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(ثُمَّ مَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ، وَإِنْ أَحْيَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: يَمْلِكُهُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي الْحَطَبِ وَالصَّيْدِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ نَفْسُ إمَامِهِ بِهِ» وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ، وَلِأَنَّهُ مَغْنُومٌ لِوُصُولِهِ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كَمَا فِي سَائِرِ الْغَنَائِمِ وَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَاءِ، فَلَوْ أَحْيَاهَا ثُمَّ تَرَكَهَا فَزَرَعَهَا غَيْرُهُ فَقَدْ قِيلَ: الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَلَكَ اسْتِغْلَالَهَا لَا رَقَبَتَهَا، فَإِذَا تَرَكَهَا كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، إذْ الْإِضَافَةُ فِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ، وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً ثُمَّ أَحَاطَ الْإِحْيَاءُ بِجَوَانِبِهَا الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَلَى التَّعَاقُبِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ طَرِيقَ الْأَوَّلِ فِي الْأَرْضِ الرَّابِعَةِ لِتَعَيُّنِهَا لِتَطَرُّقِهِ وَقَصْدِ الرَّابِعِ إبْطَالَ حَقِّهِ.
الشرح:
كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
فَحَدِيثُ عَائِشَةَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي الْمُزَارَعَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ» قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِلَفْظِ الْمُصَنِّفِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي زُهَيْرٌ ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»، انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ أَبِي يَعْلَى، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّيَالِسِيِّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَلَيَّنَ زَمْعَةَ، وَقَالَ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ: فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْخَرَاجِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْأَحْكَامِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْمَوَاتِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، إلَّا عَبْدَ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ هِشَامٍ، انْتَهَى.
وَهَذَا الْمُرْسَلُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: قَالَ عُرْوَةُ: فَلَقَدْ خَبَّرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتهَا، فَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ»، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَنَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَضْرِبُ فِي أُصُولِ النَّخْلِ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ اللَّيْثِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، مُرْسَلًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ أَخْبَرْنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، فَذَكَرَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، انْتَهَى.
وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتْ الْعَافِيَةُ مِنْهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» انْتَهَى.
ورَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلْمُسْلِمِ، وَأَعَادَهُ فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ وَالْأَرْبَعِينَ، مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا الْخِطَابَ إنَّمَا وَرَدَ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْهُمْ، قَالَ: وَالْعَافِيَةُ طِلَابُ الرِّزْقِ، انْتَهَى.
ورَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، مَرْفُوعًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَمْرٍو: فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُسَاوِرٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاهِبِ الْحَارِثِيُّ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا، بِلَفْظِ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ فَضَالَةَ: فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ ثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَرْضُ أَرْضُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ»، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْوَسَطِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ ثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُد ثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ حَدِيثِ فَضَالَةَ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا، بِلَفْظِ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَأَعَلَّهُ بِكَثِيرٍ، وَضَعَّفَهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنِ مَعِينٍ جِدًّا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ رَبَاحٍ مَوْلَى ابْنِ طَاوُسٍ يُحَدِّثُ عَنْهُ بِالْأَبَاطِيلِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عُمَرُ بْنُ رَبَاحٍ هُوَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْعَبْدِيُّ دَجَّالٌ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْ الْفَلَّاسِ، وَوَافَقَهُمَا.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ».
قُلْت: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ قَوْلُهُ: عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِمُحْتَجِرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ.
قُلْت: رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِمُحْتَجِرٍ حَقٌّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ. انْتَهَى.
وَالْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ ضَعِيفٌ، وَسَعِيدٌ عَنْ عُمَرَ فِيهِ كَلَامٌ، وَرَوَى حُمَيْدٍ بْنُ زَنْجُوَيْهِ النَّسَائِيّ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَبَّادٍ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ نَاسًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَرْضًا، فَعَطَّلُوهَا وَتَرَكُوهَا، فَأَخَذَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، فَأَحْيَوْهَا، فَخَاصَمَ فِيهَا الْأَوَّلُونَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ قَطِيعَةً مِنِّي، أَوْ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لَمْ أَرْدُدْهَا، وَلَكِنَّهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، لَا يُعَمِّرُهَا، فَعَمَّرَهَا غَيْرُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا»، انْتَهَى قَوْلُهُ: وَفِي الْأَخِيرِ وَرَدَ الْخَبَرُ.
قُلْت: قَالَ السِّغْنَاقِيُّ فِي الشرح الْأَخِيرِ هُوَ حَفَرَ الْبِئْرَ، وَرَدَّ فِيهِ الْخَبَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ حَفَرَ مِنْ بِئْرٍ مِقْدَارَ ذِرَاعٍ، فَهُوَ مُحْتَجِرٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَا رَأَيْته، وَلَا أَعْرِفُهُ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ.
قَالَ: (وَيَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ)، لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذْنَ الْإِمَامِ مِنْ شَرْطِهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حَتَّى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَصْلِنَا.
قَالَ: (وَمَنْ حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ)، لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ لِيَعْمُرَهَا فَتَحْصُلَ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ يَدْفَعُ إلَى غَيْرِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ لِيَمْلِكَهُ بِهِ، لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ إنَّمَا هُوَ الْعِمَارَةُ وَالتَّحْجِيرُ الْإِعْلَامُ، سُمِّيَ بِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعْلِمُونَهُ بِوَضْعِ الْأَحْجَارِ حَوْلَهُ أَوْ يُعْلِمُونَهُ لِحَجْرِ غَيْرِهِمْ عَنْ إحْيَائِهِ فَبَقِيَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَمَا كَانَ، هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنَّمَا شَرْطُ تَرْكِ ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْلَمَهُ لَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى وَطَنِهِ وَزَمَانٍ يُهَيِّئُ أُمُورَهُ فِيهِ ثُمَّ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا يَحْجُرُ فَقَدَّرْنَاهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ، لِأَنَّ مَا دُونَهَا مِنْ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ لَا يَفِي بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَرَكَهَا.
قَالُوا: هَذَا كُلُّهُ دَيَّانَةٌ فَأَمَّا إذَا أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَلَكَهَا لِتَحَقُّقِ الْإِحْيَاءِ مِنْهُ دُونَ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَالِاسْتِيَامِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ، وَلَوْ فَعَلَ يَجُوزُ الْعَقْدُ.
ثُمَّ التَّحْجِيرُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْحَجْرِ بِأَنْ غَرَزَ حَوْلَهَا أَغْصَانًا يَابِسَةً أَوْ نَقَّى الْأَرْضَ وَأَحْرَقَ مَا فِيهَا مِنْ الشَّوْكِ أَوْ خَضَّدَ مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ أَوْ الشَّوْكِ وَجَعَلَهَا حَوْلَهَا وَجَعَلَ التُّرَابَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتِمَّ الْمُثَنَّاةَ لِيَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ أَوْ حَفَرَ مِنْ بِئْرٍ ذِرَاعًا أَوْ ذِرَاعَيْنِ.
وَفِي الْأَخِيرِ وَرَدَ الْخَبَرُ، وَلَوْ كَرَّبَهَا وَسَقَاهَا فَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إحْيَاءٌ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدُهُمَا يَكُونُ تَحْجِيرًا وَلَوْ حَفَرَ أَنْهَارَهَا، وَلَمْ يُسْقِطْهَا يَكُونُ تَحْجِيرًا، وَإِنْ كَانَ سَاقَهَا مَعَ حَفْرِ الْأَنْهَارِ كَانَ إحْيَاءً لِوُجُودِ الْفِعْلَيْنِ، وَلَوْ حَوَّطَهَا أَوْ سَنَّمَهَا بِحَيْثُ يَعْصِمُ الْمَاءَ يَكُونُ إحْيَاءً، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ وَكَذَا إذَا بَذَرَهَا.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ) لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ وَالنَّهْرِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ الْإِمَامُ مَا لَا غِنًى بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُ كَالْمِلْحِ وَالْآبَارِ الَّتِي يَسْتَقِي النَّاسُ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ: (وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَرِّيَّةٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا) وَمَعْنَاهُ إذَا حَفَرَ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَهُ أَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا، لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ إحْيَاءٌ.
قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ لِلْعَطَنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» ثُمَّ قِيلَ: الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لِأَنَّ فِي الْأَرَاضِي رَخْوَةً وَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا.
(وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَهَذَا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا) لَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ لِلِاسْتِقَاءِ وَقَدْ يَطُولُ الرِّشَاءُ وَبِئْرُ الْعَطَنِ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهُ بِيَدِهِ فَقَلَّتْ الْحَاجَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَاوُتِ، وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.
وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ، لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ وَالِاسْتِحْقَاقِ بِهِ، فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَقَى مِنْ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُدِيرَ الْبَعِيرَ حَوْلَ الْبِئْرِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ) لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ، لِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ وَمِنْ حَوْضٍ يُجْمَعُ فِيهِ الْمَاءُ وَمِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ إلَى الْمَزْرَعَةِ، فَلِهَذَا يُقَدَّرُ بِالزِّيَادَةِ وَالتَّقْدِيرِ بِخَمْسِمِائَةٍ بِالتَّوْقِيفِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَطَنِ، وَالذِّرَاعُ هُوَ الْمُكَسَّرَةُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَقِيلَ: إنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْعَيْنِ وَالْبِئْرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِصَلَابَةٍ بِهَا وَفِي أَرَاضِينَا رَخَاوَةٌ فَيُزَادُ كَيْ لَا يَتَحَوَّلَ الْمَاءُ إلَى الثَّانِي فَيَتَعَطَّلَ الْأَوَّلُ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
فَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ بِالسَّنَدِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَضَعَّفَهُ، فَقَالَ: وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ قَالَ الرَّازِيّ: كَانَ يَكْذِبُ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ وَالنَّسَائِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. انْتَهَى.
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّ ابْنَ مَاجَهْ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ اثْنَيْنِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، فَذَكَرَهُ، هُوَ مِنْ رِوَايَةِ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ إنَّهُ وَهَمَ فِيهِ، فَإِنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ هَذَا هُوَ الْخَفَّافُ، وَهُوَ صَدُوقٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَاَلَّذِي نَقَلَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هُوَ ابْنُ الضَّحَّاكِ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْخَفَّافِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ إسْمَاعِيلَ، وَلَكِنْ يَكْفِي فِي تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْت: صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ الْخَفَّافُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَأَمَّا تَضْعِيفُهُ بِإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ فَقَدْ تَابَعَهُ أَشْعَثُ، كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ إنَّمَا تَمَحَّلَ فِي تَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ احْتَجَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ حَرِيمَهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَاحْتُجَّ لِأَحْمَدَ بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْمُقْرِي ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي الْخَصِيبِ ثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا»، انْتَهَى.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الصَّحِيحُ مُرْسَلٌ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَنْ أَسْنَدَهُ فَقَدْ وَهَمَ، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْمُقْرِي، وَضَعَ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ نُسْخَةً، وَوَضَعَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُسْنَدَةِ، وَالنُّسَخِ مَا لَا يُضْبَطُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا، وَهُوَ الصَّوَابُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا هُشَيْمِ عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ جَوَانِبِهَا كُلِّهَا لِأَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، أَوْ الشَّارِبِ، وَلَا يَمْنَعُ فَضْلَ مَاءٍ، لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ»، انْتَهَى.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا».
قُلْت: غَرِيبٌ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا».
قَالَ سَعِيدٌ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ: وَحَرِيمُ قَلِيبِ الزَّرْعِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَزَادَ الزُّهْرِيُّ: وَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَهَذَا حَرِيمُ مَا يَأْذَنُ بِهِ السُّلْطَانُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ فِي أَرْضٍ أَسْلَمُوا عَلَيْهَا وَابْتَاعُوهَا، انْتَهَى.
ورَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَثْنَاءِ الْبُيُوعِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ بِدُونِ زِيَادَةِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيمَ الْبِئْرِ الْمُحْدَثَةِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمَ الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا».
قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: وَأَرَى أَنَا حَرِيمَ بِئْرِ الزَّرْعِ ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ، انْتَهَى.
وأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيِّ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْعَيْنِ السَّائِحَةِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمُ عَيْنِ الزَّرْعِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ» انْتَهَى.
وابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ضَعِيفٌ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْمُقْرِي ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي الْخَصِيبِ ثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مُرْسَلٌ، وَمَنْ أَسْنَدَهُ فَقَدْ وَهَمَ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَبْلُغُ بِهِ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حَرِيمُ قَلِيبِ الْعَادِيَّةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ قَلِيبِ الْبَادِي خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا»، انْتَهَى.
قَالَ: وَأَسْنَدَهُ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْمُحْدَثَةِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا»، انْتَهَى.
وَسَكَتَ عَنْهُ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ: وَالْمُرْسَلُ أَشْبَهُ.
قَالَ: (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ وَالْإِخْلَالِ بِهِ، وَهَذَا، لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ مَلَكَ الْحَرِيمَ ضَرُورَةَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ احْتَفَرَ آخَرُ بِئْرًا فِي حَدِّ حَرِيمِ الْأَوَّلِ، لِلْأَوَّلِ أَنْ يُصْلِحَهُ وَيَكْبِسَهُ تَبَرُّعًا، وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ الثَّانِي فِيهِ، قِيلَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِكَبْسِهِ، لِأَنَّ إزَالَةَ جِنَايَةِ حَفْرِهِ بِهِ كَمَا فِي الْكُنَاسَةِ يُلْقِيهَا فِي دَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِرَفْعِهَا، وَقِيلَ: يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ، ثُمَّ يَكْبِسُهُ بِنَفْسِهِ كَمَا إذَا هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ، وَذَكَرَ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ، وَمَا عَطِبَ فِي الْأُولَى، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا، وَالْعُذْرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْحَفْرِ تَحْجِيرًا، وَهُوَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِهِ، وَمَا عَطِبَ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ حَيْثُ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
وَإِنْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا وَرَاءَ حَرِيمِ الْأُولَى فَذَهَبَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَفْرِهَا، وَلِلثَّانِي الْحَرِيمُ مِنْ الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ مِلْكِ الْحَافِرِ الْأَوَّلِ فِيهِ (وَالْقَنَاةُ لَهَا حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهَا) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ، وَقِيلَ: هُوَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا حَرِيمَ لَهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ نَهْرٌ فِي التَّحْقِيقِ، فَيُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ.
قَالُوا: وَعِنْدَ ظُهُورِ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فَيُقَدَّرُ حَرِيمُهُ بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ (وَالشَّجَرَةُ تُغْرَسُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ لَهَا حَرِيمٌ أَيْضًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا فِي حَرِيمِهَا)، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حَرِيمٍ لَهُ يَجِدُ فِيهِ ثَمَرَهُ وَيَضَعُهُ فِيهِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ.
الشرح:
قَوْلُهُ: وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ، بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ يَعْنِي حَرِيمَ الشَّجَرَةِ الَّتِي تُغْرَسُ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ قُلْت: أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي آخِرِ الْأَقْضِيَةِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي طُوَالَةَ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «اخْتَصَمَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ»، فِي حَدِيثِ أَحَدِهِمَا: «فَأَمَرَ بِهَا فَذُرِعَتْ، فَوُجِدَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ»، وَفِي حَدِيثِ الْآخَرِ: «فَوُجِدَتْ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، فَقَضَى بِذَلِكَ»، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: «فَأَمَرَ بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرِيدِهَا، فَذُرِعَتْ»، انْتَهَى.
سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد، ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَهُ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ وَلَفْظُهُ: قَالَ: «اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَخْلَةٍ، فَقَطَعَ مِنْهَا جَرِيدَةً، ثُمَّ ذَرَعَ بِهَا النَّخْلَةَ، فَإِذَا فِيهَا خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، فَجَعَلَهَا حَرِيمَهَا»، انْتَهَى.
وَمِنْ جِهَةِ الطَّحَاوِيِّ ذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو دَاوُد: خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، أَوْ سَبْعَةٌ، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي النَّخْلَةِ أَنَّ حَرِيمَهَا مَبْلَغُ جَرِيدِهَا»، انْتَهَى.
وقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْعَبْدِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ حَرِيمَ النَّخْلَةِ مَدَّ جَرِيدِهَا»، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرِيمِ النَّخْلَةِ طُولَ عَسِيبِهَا»، انْتَهَى.
قَالَ: (وَمَا تَرَكَ الْفُرَاتَ أَوْ الدِّجْلَةَ وَعَدَلَ عَنْهُ الْمَاءُ وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهُ) لِحَاجَةِ الْعَامَّةِ إلَى كَوْنِهِ نَهْرًا (وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ)، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ وَهُوَ الْيَوْمَ فِي يَدِ الْإِمَامِ.
قَالَ: (وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ حَرِيمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَا: لَهُ مُسَنَّاةُ النَّهْرِ يَمْشِي عَلَيْهَا، وَيُلْقِي عَلَيْهَا طِينَهُ) قِيلَ: هِيَ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ حَفَرَ نَهْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّهُ، لِأَنَّ النَّهْرَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْحَرِيمِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَشْيِ لِتَسْبِيلِ الْمَاءِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَادَةً فِي بَطْنِ النَّهْرِ وَإِلَى إلْقَاءِ الطِّينِ، وَلَا يُمْكِنُهُ النَّقْلُ إلَى مَكَان بَعِيدٍ إلَّا بِحَرَجٍ فَيَكُونُ لَهُ الْحَرِيمُ اعْتِبَارًا بِالْبِئْرِ، وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِي الْبِئْرِ عَرَّفْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ فَوْقَهَا إلَيْهِ فِي النَّهْرِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي النَّهْرِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْحَرِيمِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبِئْرِ إلَّا بِالِاسْتِقَاءِ، وَلَا اسْتِقَاءَ إلَّا بِالْحَرِيمِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ.
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا تَبَعًا لِلنَّهْرِ، وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ وَبِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ تَنْعَدِمُ الْيَدُ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً، فَلَهُمَا أَنَّ الْحَرِيمَ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ بِاسْتِمْسَاكِهِ الْمَاءَ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَقْضَهُ، وَلَهُ أَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأَرْضِ صُورَةً وَمَعْنًى: أَمَّا صُورَةً: فَلِاسْتِوَائِهِمَا، وَمَعْنًى: مِنْ حَيْثُ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ، وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ كَائِنَيْنِ تَنَازَعَا فِي مِصْرَاعِ بَابٍ لَيْسَ فِي يَدِهِمَا، وَالْمِصْرَاعُ الْآخَرُ مُعَلَّقٌ عَلَى بَابِ أَحَدِهِمَا يَقْضِي لِلَّذِي فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَالْقَضَاءُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ قَضَاءُ تَرْكٍ، وَلَا نِزَاعَ فِيمَا بِهِ اسْتِمْسَاكُ الْمَاءِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا وَرَاءَهُ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْغَرْسِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُسْتَمْسِكًا بِهِ مَاءَ نَهْرِهِ فَالْآخَرُ دَافِعٌ بِهِ الْمَاءَ عَنْ أَرْضِهِ وَالْمَانِعُ مِنْ نَقْضِهِ تَعَلُّقُ حَقِّ صَاحِبِ النَّهْرِ لَا مِلْكُهُ كَالْحَائِطِ لِرَجُلٍ، وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ وَإِنْ كَانَ مِلْكَهُ.
(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: نَهْرٌ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ مُسَنَّاةٌ، وَلِآخَرَ خَلْفَ الْمُسَنَّاةِ أَرْضٌ تَلْزَقُهَا وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: هِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمًا لِمُلْقَى طِينَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ) وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، مَعْنَاهُ: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ غَرْسٌ، وَلَا طِينٌ مُلْقًى، فَيَنْكَشِفُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
أَمَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَصَاحِبُ الشَّغْلِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ صَاحِبُ يَدٍ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ غَرْسٌ لَا يَدْرِي مَنْ غَرَسَهُ فَهُوَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا، وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِ النَّهْرِ، وَأَمَّا إلْقَاءُ الطِّينِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ: إنَّ لِصَاحِبِ النَّهْرِ ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْحُشْ، وَأَمَّا الْمُرُورُ فَقَدْ قِيلَ: يَمْنَعُ صَاحِبُ النَّهْرِ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: آخُذُ بِقَوْلِهِ فِي الْغَرْسِ وَبِقَوْلِهِمَا فِي إلْقَاءِ الطِّينِ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ حَرِيمَهُ مِقْدَارُ نِصْفِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِقْدَارُ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَهَذَا أَرْفَقُ بِالنَّاسِ.
فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشُّرْبِ فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ (وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّفَةِ، وَالشَّفَةُ: الشُّرْبُ لِبَنِي آدَمَ وَالْبَهَائِمِ).
اعْلَمْ أَنَّ الْمِيَاهَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا: مَاءُ الْبِحَارِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا حَقُّ الشَّفَةِ وَسَقْيِ الْأَرَاضِي، حَتَّى إنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِيَ نَهْرًا مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ وَالِانْتِفَاعُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْهَوَاءِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ.
وَالثَّانِي: مَاءُ الْأَوْدِيَةِ الْعِظَامِ: كَجَيْحُونَ، وَسَيْحُونُ، وَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتِ لِلنَّاسِ فِيهِ حَقُّ الشَّفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَحَقُّ سَقْيِ الْأَرَاضِي فَإِنْ أَحْيَا وَاحِدٌ أَرْضًا مَيْتَةً وَكَرَى مِنْهَا نَهْرًا لِسَقْيِهَا إنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ، وَلَا يَكُونُ النَّهْرُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ فِي الْأَصْلِ إذْ قَهْرُ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يُمِيلَ الْمَاءَ إلَى الْجَانِبِ إذَا انْكَسَرَتْ ضِفَّتُهُ، فَيُغْرِقَ الْقُرَى وَالْأَرَاضِي، وَعَلَى هَذَا نَصْبُ الرَّحَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ شَقَّ النَّهْرِ لِلرَّحَى كَشَقِّهِ لِلسَّقْيِ بِهِ.
وَالثَّالِثُ: إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي الْمَقَاسِمِ فَحَقُّ الشَّفَةِ ثَابِتٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ» وَأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الشُّرْبَ، وَالشُّرْبُ خُصَّ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَبَقِيَ الثَّانِي، وَهُوَ الشَّفَةُ، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ وَنَحْوَهَا مَا وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ، وَلَا يُمْلَكُ الْمُبَاحُ بِدُونِهِ كَالظَّبْيِ إذَا تَكَنَّسَ فِي أَرْضِهِ، وَلِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الشَّفَةِ ضَرُورَةً، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْمَاءِ إلَى كُلِّ مَكَان وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَظَهْرِهِ فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ أَفْضَى إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَسْقِيَ بِذَلِكَ أَرْضًا أَحْيَاهَا كَانَ لِأَهْلِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ عَنْهُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّهُ حَقٌّ خَاصٌّ لَهُمْ وَلَا ضَرُورَةَ، وَلِأَنَا لَوْ أَبَحْنَا ذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ مَنْفَعَةُ الشُّرْبِ.
وَالرَّابِعُ: الْمَاءُ الْمُحْرَزُ فِي الْأَوَانِي وَأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا بِالْإِحْرَازِ، وَانْقَطَعَ حَقُّ غَيْرِهِ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّيْدِ الْمَأْخُوذِ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ إنْسَانٌ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ، وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابًا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ، وَلَوْ كَانَ الْبِئْرُ أَوْ الْعَيْنُ أَوْ الْحَوْضُ أَوْ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَةَ مِنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ يَجِدُ مَاءً آخَرَ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ يُقَالُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ: إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الشَّفَةَ، أَوْ تَتْرُكَهُ يَأْخُذُهُ بِنَفْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْسِرَ ضِفَّتَهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقِيلَ: مَا قَالَهُ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا احْتَفَرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ.
أَمَّا إذَا احْتَفَرَهَا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ، لِأَنَّ الْمَوَاتَ كَانَ مُشْتَرَكًا، وَالْحَفْرُ لِإِحْيَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ، فَلَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الشَّفَةِ، وَلَوْ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ الْعَطَشَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ إتْلَافَهُ بِمَنْعِ حَقِّهِ وَهُوَ الشَّفَةُ وَالْمَاءُ فِي الْبِئْرِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُحْرَزِ فِي الْإِنَاءِ حَيْثُ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ، وَكَذَا الطَّعَامُ عِنْدَ إصَابَةِ الْمَخْمَصَةِ، وَقِيلَ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَاتِلَهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ بِعَصًا، لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ التَّعْزِيرِ لَهُ، وَالشَّفَةُ إذَا كَانَ يَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلًا صَغِيرًا، وَفِيمَا يَرِدُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْمَوَاشِي كَثْرَةٌ يَنْقَطِعُ الْمَاءُ بِشُرْبِهَا قِيلَ: لَا يَمْنَعُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْإِبِلَ لَا تَرِدُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَصَارَ كَالْمُيَاوَمَةِ وَهُوَ سَبِيلٌ فِي قِسْمَةِ الشُّرْبِ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَ اعْتِبَارًا بِسَقْيِ الْمَزَارِعِ، وَالْمَشَاجِرِ وَالْجَامِعُ تَفْوِيتُ حَقِّهِ، وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَاءَ مِنْهُ لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ فِي الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ فِيهِ كَمَا قِيلَ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ شَجَرًا أَوْ خُضَرًا فِي دَارِهِ حَمْلًا بِجِرَارِهِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ، وَيُعِدُّونَ الْمَنْعَ مِنْ الدَّنَاءَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَنَخْلَهُ وَشَجَرَهُ مِنْ نَهْرِ هَذَا الرَّجُلِ وَبِئْرِهِ وَقَنَاتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ نَصًّا، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى دَخَلَ فِي الْمَقَاسِمِ انْقَطَعَتْ شَرِكَةُ الشُّرْبِ بِوَاحِدَةٍ، لِأَنَّ فِي إبْقَائِهِ قَطْعَ شُرْبِ صَاحِبِهِ وَلِأَنَّ الْمَسِيلَ حَقُّ صَاحِبِ النَّهْرِ، وَالضِّفَّةُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْبِيلُ فِيهِ وَلَا شَقُّ الضِّفَّةِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ أَعَارَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَتَجْرِي فِيهِ الْإِبَاحَةُ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ فِي إنَائِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشرح:
فصلٌ فِي الْمِيَاه:
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ، وَالْكَلَإِ، وَالنَّارِ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
فَحَدِيثُ الرَّجُلِ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فِي الْبُيُوعِ عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي خِدَاشٍ حِبَّانَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، أَسْمَعُهُ يَقُولُ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَإِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ»، انْتَهَى.
ورَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الْأَقْضِيَةِ، وَأَسْنَدَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُمَا قَالَا فِي حَرِيزٍ: ثِقَةٌ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ جِهَةِ أَبِي دَاوُد، قَالَ: لَا أَعْلَمُ رَوَى عَنْ أَبِي خِدَاشٍ إلَّا حَرِيزُ بْنَ عُثْمَانَ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ: مَجْهُولٌ. انْتَهَى.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ: وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَتَرْكُ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ فِي الْإِسْنَادِ لَا يَضُرُّ إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ مِمَّا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن خِرَاشٍ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ: شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالْكَلَإِ، وَالنَّارِ»، وَثَمَنُهُ حَرَامٌ، انْتَهَى.
قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا أَبُو زُرْعَةَ، وَقَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ: ذَاهِبُ الْحَدِيثِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَقَرَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَلَيْهِ، انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ ثَنَا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ ثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالْكَلَإِ، وَالنَّارِ»، انْتَهَى.